إذا أراد الإنسان نموذجًا حيًّا للاستلاب الفكري والهزيمة النفسية.
فلينظر إلى احتفال بعض المسلمين بميلاد السيد المسيح-عليه السلام- وابتهاجهم برأس السنة الميلادية.
أَوَليْس من العجب العجيب أن تختفي مظاهر الفرح بعيد الفطر والأضحى أو تكاد في بعض البلاد الإسلامية.
وتنتشر احتفاءً بالأعياد النصرانية؛ لتعمَّ واجهات المحلات وتتناقل أخبارها الجرائد والفضائيات.
وتُقام لها الاحتفالات شبه الرسمية، وتُنَظَّم من أجلها رحلات خاصة إلى باريس وتونس وغيرهما من المدن (المتحررة)؟!
ليس (عيد الميلاد) مناسبة عالمية ولا رمزًا (إنسانيًّا) كما يزعم العلمانيون العرب.
إنما هو-من الناحية الشرعية- شعيرة دينية مرتبطة بالنصرانية، لا علاقة للمسلم بها إطلاقًا، فمَن احتفل به كان كمَن تقلَّد صليبًا تمامًا، وكلُّنا نعلم أن مَن تشبَّه بقوم فهو منهم، والمرء مع مَن أحبَّ.
ولعلَّ أخطر ما في هذه القضية-إضافةً إلى اقتراف ما نهى الله تعالى عنه- تأثيراتها النفسية على قومٍ فعل فيهم الغزو الفكري فعلَه؛ فهانتْ عليهم شخصيتهم الإسلامية.
وفرَّطوا في تميُّزهم العقدي وما عادوا يعتزُّون بالإسلام، بل صاروا يبتغون العزَّة في ملل وفلسفات ونُظُم أخرى.
رغم ما يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم ما نقلهم إليه هذا التحوُّل إلى غير ظلِّ الإسلام من ذلٍّ ومهانة وتفاهة، فما الذي يغري هؤلاء بتقليد النصارى والاحتفال بأعيادهم؟
إنها الشبهات التي خلعتْ على تصوُّرهم غبشًا يزيد ولا ينقص؛ فيزعمون أن النصرانية دين (إنساني).
بينما الإسلام دين التكاليف الشاقَّة، والتضييق على الحريَّات والإرهاب، وإلى جانب الشبهات التي رانت على عقولهم، هناك الشهوات التي تبيحها النصرانية ويحظرها الإسلام.
وهل الاحتفال بالميلاد سوى عبٍّ للخمور وارتماء في حمأة الجنس بلا حدود؟!
ثم أين هؤلاء النصارى الذين يشاركهم بعض بني جلدتنا أعيادَهم من الدين النصراني الذي يدعو-كما يروِّجون بافتخار- إلى السموِّ الروحي والتطهُّر والمسامحة والتواضع؟!
إن الغربيين هم أبعد الناس عن هذه المكارم، بل لا علاقة لهم بالدين البتَّة؛ ما عدا أقلية هي أقرب إلى قطرة في عرض المحيط، أليسوا عبيدًا للمادة وحدها؟!
ما الذي يتمثَّلونه في حياتهم من تعاليم السيد المسيح عليه السلام؟!
أين الصفح عن المعتدي؟! أين إدارة الخدِّ الأيمن بعد تلقِّي ضربة على الأيسر؟!
أين شعار: (أحبُّوا أعداءَكم وباركوا لاعنيكم)؟!
أليس الغرب النصراني علَمًا على العدوانية تنظيرًا وسلوكًا؟!
أليس هو الذي احتلَّ بلادنا الإسلامية بمباركة الكنيسة، ثم مزَّقها وما زال يعمل على إبقائها متخلّفة هزيلة؟!
أين تسامح النصرانية الذي يصمُّون الآذان به؟! لم يتسامحوا مع أربع مآذن يتيمة في بلد كامل، ولا مع عشرات قليلات من المنتقبات وسط 35 مليون امرأة فرنسية سافرات.
ولا يسمحون للمسلمين بذبح الأضاحي بدعوى الشفقة على الخرفان، هكذا يعاملوننا استنادًا إلى اعتزازٍ مزعوم بالنصرانية، فما بال بعضنا غمرهم الحمق وتأصَّل فيهم الغباء، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
إنهم ضحايا الغزو الفكري، انهزموا نفسيًّا قبل أن تهزمهم جيوشٌ في ساحات الوغى.
ولو قصروا الاستلاب الحضاري على أنفسهم لهان الأمر، لكنهم يدعون إلى هذا الباطل بإلحاح، فما أن يحلَّ شهر ديسمبر حتى تمتلئ الجرائد بالإشهار والإعلانات الداعية إلى حجز المقاعد في الطائرات القاصدة عواصم الفجور.
وحجز الطاولات في الفنادق المحلية التي ستُحْيَا فيها ليلةُ الميلاد وليلةُ رأس السنة.
وتحضر فيها كلُّ الرموز النصرانية: كالشجرة المزيَّنة، والديك الرومي، والخشبة، مع إغراءات في الأسعار ووعودٍ باستضافة أشهر المطربات المترجِّلات والمطربين المخنَّثين.
وتتكفَّل قنوات مرئية ومسموعة بنقل مثل هذه الاحتفالات.
ولا يجوز لأحد التشكيكُ في إسلام هؤلاء، فهم وحدهم المسلمون حقًّا، يؤمنون بالتفتُّح، وينبذون التعصُّب، ويتبرَّءون من الأصوليين الظلاميين الذين يريدون إرجاع الدنيا إلى القرون الوسطى.
أجل، هكذا يزعمون، وصدق العلاَّمة أبو الحسن الندوي-رحمه الله تعالى- فقد كتب: "ردَّة ولا أبا بكر لها"، ردة اسمها الليبرالية أو العلمانية أو التنوير أو النزعة الإنسانية.
إن على دعاة الإسلام أن يلتفتوا إلى هذه الظاهرة بعمل منهجي واعٍ بصير.
يهدف إلى تجلية الحقائق وردِّ الشبهات، والتنبيه على المخاطر العقدية المحدِقة بهذا الانحراف.
وذلك بأساليب هادئة هادفة تتوخَّى الموضوعية وتتجنَّب التعميم في التكفير والتبديع؛ خشية تسلُّط شياطين الإنس والجنِّ على المدعوِّين لتأخذهم العزة بالإثم؛ فلا يبقى لهم مجال للتوبة إلى الله-تعالى- والرجوع إلى حياض الإسلام.
والدعوة بالحسنى لا تعني التساهل مع المخالفات الشرعية والانحرافات الفكرية، فلا بُدَّ من محاصرة الباطل.
ببيان حرمة تزيين واجهات المحلاَّت بمناسبة أعياد غير المسلمين، ولا صنع شيكولاتة خاصة بها.
ولا بيعها ولا شراؤها ولا أكلها، كما لا يجوز بحال تبادل التهاني ولا تبادل بطاقات تحمل عبارات مثل (عيد سعيد) ونحوها، ولا اتِّخاذ هذه المناسبة عطلة مدفوعة الأجر.
أعيد التنبيه على ضرورة اعتزاز المسلمين بدينهم، والحرص على التميُّز العقدي وقوة الشخصية الإيمانية.
فهذه الأعياد المسيحية إهانة لعيسى-عليه السلام- قبل غيره، فهل من تبجيله تعاطي الخمور واستباحة الفواحش في ذكرى ميلاده؟! مع العلم أن السياق القرآني يشير إلى أنه لم يولد في الشتاء بل في موسم التمور؛ فهو إذن احتفال باطل من كل الوجوه.
قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
لكاتب: عبد العزيز كحيل
المصدر: شبكة الألوكة